كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَيْضًا: إِنَّنَا إِذَا قَطَعْنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحِجَابِ رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ الْمَانِعُ مِنَ النَّظَرِ، فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ هُوَ حِجَابُ النُّورِ الْمَانِعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى، وَالنَّظَرُ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ الَّذِي كَانَ مَانِعًا مِنَ النَّظَرِ يُكْشَفُ فَيَقَعُ النَّظَرُ، فَيَرَى النَّاظِرُونَ النُّورَ الَّذِي رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ الْمَانِعَ مِنْ رُؤْيَةِ الذَّاتِ. وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ هَذَا الْبَحْثِ.
(8) وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي تَجَلِّيهِ سبحانه فِي الصُّوَرِ، وَأَقْوَاهَا وَأَصَحَّهَا حَدِيثَا أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الطَّوِيلَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ فِيهِ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ يُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟» قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ: يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَعَالَى فِي صُورَةٍ غَيْرَ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ. فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ» انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، وَيَلِيهِ ذِكْرُ الصِّرَاطِ وَالْجَوَازِ عَلَيْهِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ إِلَخْ. وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟» وَذَكَرَ بَعْدَهَا الْقَمَرَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ تَشْبِيهُ رُؤْيَةِ الرَّبِّ تَعَالَى بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَيْضًا؛ أَيْ: فِي كَوْنِهِ لَا مُضَارَّةَ فِيهِ، وَلَا فِي التَّزَاحُمِ عَلَيْهِ- لَا تَشْبِيهُ الْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ- وَفِيهِ ذِكْرُ مَنْ عَبَدَ الْعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ وَدُخُولِ كُلِّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللهِ النَّارَ، وَيَقُولُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ: «حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ: فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ لَا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا- مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا- حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ. فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةً فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ أُخْرَى فِي الصُّورَةِ، سَتَأْتِي فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ أَيْضًا، وَيُخَالِفُهُ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي بَعْضِ التَّعْبِيرِ، وَرَوَاهُمَا غَيْرُهُمَا بِأَلْفَاظٍ تُوَافِقُ كُلًّا مِنْهُمَا وَتُخَالِفُهُ بِتَعْبِيرٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَالْمَعْنَى الْعَامُّ وَاحِدٌ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ رِوَايَةُ: «فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ» وَهِيَ لَا تُعَارِضُ رِوَايَةَ: «فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ» الْمُوَافَقَةُ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (68: 42) وَلَكِنَّ تَنْكِيرَ السَّاقِ وَإِسْنَادَ كَشْفِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ أَوْسَعُ مَجَالًا لِلتَّأْوِيلِ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَإِسْنَادِ كَشْفِهِ إِلَيْهِ، فَهُوَ كَالتَّشْمِيرِ عَنِ السَّاعِدِ مَثَلَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْجِدِّ وَالِاهْتِمَامِ وَشِدَّةِ الْخَطْبِ، وَسَبَبُ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ الْفِرَارُ مِنْ شَيْءٍ مُخَوِّفٍ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْعَدْوُ السَّرِيعُ فَلَا يَتَعَثَّرُ بِثَوْبِهِ، وَسَبَبُ الثَّانِي أَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا بِاتْقَانٍ وَسُرْعَةٍ يُشَمِّرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى لَا يَعُوقَهُ كُمَّاهُ، وَفِي مَجَازِ الْأَسَاسِ قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقِهَا، وَكَشَفَ الْأَمْرُ عَنْ سَاقِهِ. قَالَ:
عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِنْ إِشْفَاقِهَا

وَمِنْ طِرَادِي الطَّيْرَ عَنْ أَرْزَاقِهَا

فِي سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا

. اهـ.
أَقُولُ: فَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ عِبَارَةَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ بِمَعْنَى أَنَّ أَمْرَ امْتِحَانِ اللهِ تَعَالَى لِلنَّاسِ وَالتَّنْزِيلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ يَنْتَهِي إِلَى آخِرِ حَدِّهِ بِتَيْسِيرِهِ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ السُّجُودَ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُنَافِقِينَ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لَفْظَ السَّاقِ وَرَدَ بِمَعْنَى الذَّاتِ وَالنَّفْسِ.
وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي حَرْبِ الشُّرَاةِ: «لابد مِنْ قِتَالِهِمْ وَلَوْ تَلِفَتْ سَاقِي» قَالُوا: أَيْ نَفْسِي. وَعَلَيْهِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَشْفُ السَّاقِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عِبَارَةً عَنْ كَشْفِ الْحِجَابِ، وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} (68: 42) قَالَ: عَنِ الْغِطَاءِ فَيَقَعُ مَنْ كَانَ آمَنَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَيَسْجُدُونَ لَهُ، وَيُدْعَى الْآخَرُونَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا آمَنُوا بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا يُبْصِرُونَهُ. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى أَسَالِيبِ اللُّغَةِ، وَعَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَجَدِّهِ، هِيَ أَشَدُّ سَاعَةٍ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يَكْشِفَ اللهُ الْأَمْرَ وَتَبْدُوَ الْأَعْمَالُ، وَقَالَ: هُوَ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الْمُفْظِعُ مِنَ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا اشْتَدَّ الْقِتَالُ فِيهِمْ وَالْحَرْبُ وَعَظُمَ الْأَمْرُ فِيهِمْ قَالُوا لِشِدَّةِ ذَلِكَ: قَدْ كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقٍ، فَذَكَرَ اللهُ شِدَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَهَذَا مِنَ التَّفْسِيرِ الْجَلِيِّ، لَا مِنَ التَّأْوِيلِ الْخَفِيِّ بِالْمَعْنَى الْأُصُولِيِّ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ أَيْ: مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ وَيَتَحَقَّقُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ إِلَّا إِذَا وَصَلُوا إِلَيْهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْبَيْضَاوِيُّ أَصْلًا آخَرَ لِكَشْفِ السَّاقِ تَتَّجِهُ بِهِ رِوَايَةُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ فِي جَعْلِهِ بِمَعْنَى كَشْفِ الْحِجَابِ، فَنَذْكُرُهُ مَعَ عِبَارَتِهِ فِي الْمَعْنَى الْآخَرِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِحُسْنِ بَيَانِهِ لَهُ وَهُمَا قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ: يَوْمَ يَشْتَدُّ الْأَمْرُ وَيَعْظُمُ الْخَطْبُ. وَكَشْفُ السَّاقِ مَثَلٌ فِي ذَلِكَ وَأَصْلُهُ تَشْمِيرُ الْمُخَدَّرَاتِ عَنْ سُوقِهِنَّ فِي الْهَرَبِ قَالَ حَاتِمٌ:
أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ** وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا

أَوْ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ أَصْلِ الْأَمْرِ وَحَقِيقَتِهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ عِيَانًا، مُسْتَعَارٌ مِنْ سَاقِ الشَّجَرِ وَسَاقِ الْإِنْسَانِ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّهْوِيلِ أَوِ التَّعْظِيمِ اهـ.
وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثَيْنِ الَّتِي اضْطَرَبَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ مَسْأَلَةُ الْإِتْيَانِ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنْكَارِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ فِي بَعْضِهَا، وَمَعْرِفَتِهِ فِي بَعْضٍ فَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا وَتَأْوِيلِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَ النُّجْعَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَارَبَ، قَالَ بَعْضُ الْمُؤَوِّلِينَ: الْمُرَادُ بِإِتْيَانِهِ تَعَالَى رُؤْيَتُهُ- أَقُولُ: وَلَكِنَّ الْإِتْيَانَ كَالرُّؤْيَةِ فِي إِيهَامِ التَّشْبِيهِ، فَلَمْ يَخُصَّ دُونَهَا بِالتَّأْوِيلِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْتِي مَلَكٌ بِأَمْرِهِ لِامْتِحَانِهِمْ، وَلَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ الْجَمْعُ بَيْنَ إِتْيَانِ الرَّبِّ وَإِتْيَانِ الْمَلَكِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُفَسَّرَ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (6: 158) وَقَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (89: 22) عَلَى وَجْهٍ، فَمُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ لِلْهَرَبِ مِنْ إِسْنَادِ الْإِتْيَانِ إِلَى الرَّبِّ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ مَعَ هَذَا- فَالْأَوْلَى قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ: إِنَّهُ إِتْيَانٌ يَلِيقُ بِهِ، لَا كَإِتْيَانِ الْخَلْقِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الصُّورَةِ وَأَوَّلُوهَا أَيْضًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا يَقَعُ بِهِ التَّجَلِّي مِنْ حِجَابٍ وَمِنْهُ رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ الَّذِي سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الصُّورَةِ فِي عِدَّةِ رِوَايَاتٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ لِحَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ.
منها كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا» وَمِنْهَا: «فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ» وَمِنْهَا: «فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ» وَمِنْهَا: «ثُمَّ يَتَبَدَّى اللهُ لَنَا فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَيْنَاهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ» وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ «ثُمَّ نَرْفَعُ رُؤُوسَنَا وَقَدْ عَادَ لَنَا فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَيْنَاهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَنَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ رَبُّنَا» وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ «فَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ رَبُّهُمْ».
ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهَا وَحَمْلُهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ مَعَ التَّنْزِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ مَذْهَبَ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ، وَمِنْهُ أَنْ يَجِيئَهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةٍ يُنْكِرُونَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ صِفَةِ الْحَدَثِ، وَلَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْإِلَهِ لِيَمْتَحِنَهُمْ «فَإِذَا قَالَ لَهُمْ هَذَا الْمَلَكُ أَوْ هَذِهِ الصُّورَةُ: أَنَا رَبُّكُمْ- رَأَوْا عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَخْلُوقِ مَا يُنْكِرُونَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ رَبُّهُمْ فَيَسْتَعِيذُونَ بِاللهِ مِنْهُ» وَقَالَ فِي شَرْحِ «فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ»: الْمُرَادُ بِالصُّورَةِ هُنَا الصِّفَةُ، وَمَعْنَاهُ: فَيَتَجَلَّى اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَعْلَمُونَهَا وَيَعْرِفُونَهُ بِهَا، وَإِنَّمَا عَرَفُوهُ بِصِفَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَقَدَّمَتْ لَهُمْ رُؤْيَةٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالصُّورَةِ عَنِ الصِّفَةِ لِمُشَابَهَتِهَا إِيَّاهَا وَلِمُجَانَسَةِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصُّورَةِ اهـ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ تَأْوِيلَاتٍ أُخْرَى عَنِ الْقُرْطُبِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ تَقْرُبُ مِمَّا اعْتَمَدَهُ النَّوَوِيُّ.
وَغَرَضُنَا مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ بَيَانُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ قَدْ أَوَّلُوا بَعْضَ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ كَمَا أَوَّلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ، فَلَا مُقْتَضَى لِلتَّعَادِي وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، وَبَعْضُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَعْرَقُ فِي التَّكَلُّفِ مِنْ بَعْضٍ، وَمَا سَاغَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا يَسُوغُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَإِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ التَّأْوِيلِ تَقْرِيبَ الْمَعَانِي إِلَى الْأَذْهَانِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَجَالٌ وَاسِعٌ لِلتَّشْكِيكِ فِي النُّصُوصِ، فَإِنَّ الْوَاقِفِينَ عَلَى عُلُومِ هَذَا الْعَصْرِ وَفُنُونِهِ قَدْ يَحْتَاجُونَ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ مَا اشْتَدَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي فَتْوَى الْمَنَارِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي هَذَا الْبَحْثِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ مَا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَاتِ الَّتِي سَبَقَتْ فِيهِ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ هُنَا، وَسَنَذْكُرُ الْفَتْوَى بِنَصِّهَا.
(9) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بَيْنَ إِثْبَاتٍ وَنَفِيٍ وَوَقْفٍ، وَاخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ فِي الرُّؤْيَةِ هَلْ هِيَ بِعَيْنِ الْبَصَرِ أَمْ بِعَيْنِ الْقَلْبِ وَالْبَصِيرَةِ؟ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمِعْرَاجِ نَفْسِهِ هَلْ كَانَ يَقَظَةً أَمْ مَنَامًا، أَمْ مُشَاهَدَةً رُوحِيَّةً بَيْنَ الْيَقَظَةِ وَالنَّوْمِ؟ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِيهَا، وَلِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَامًّا وَخَاصًّا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ صَحِيحَةٌ فِي النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ كَحَدِيثِ: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟» الْمُتَقَدَّمِ فِي النَّفْيِ الْخَاصِّ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَحَدِيثِ: «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَكَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
أَمَّا الصَّحَابَةُ؛ فَاشْتَهَرَ الْإِثْبَاتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْهُمْ، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا، وَأَخَذَ بِهِ بَعْضُ التَّابِعِينَ وَقَبِلَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ لَا يُدَقِّقُونَ فِي تَمْحِيصِ رِوَايَاتِ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ. وَاشْتَهَرَ الْمَنْعُ عَنْ عَائِشَةَ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهَا فِيهِ أَصَحُّ وَأَصْرَحُ، وَتَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهَا فِيهِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّ مَسْرُوقًا لَمَّا سَأَلَهَا هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ قَالَتْ لَهُ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ.
وَرُوِيَ النَّفْيُ عَنْ آخَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ عَنُوا بِالتَّعَادُلِ وَالتَّرْجِيحِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ فِيهَا؛ لِإِثْبَاتِ مَا سَبَقَ إِلَى اعْتِقَادِهِ، وَمَالَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ كَالْحَافِظِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ، فَرَجَّحَا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى رِوَايَةِ عَائِشَةَ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ سَنَدًا وَأَقْوَى دَلِيلًا، بِحُجَّةِ أَنَّهَا لَمْ تَنْفِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَذَكَرَتْهُ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتْ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ فَتَأَوَّلَتْ آية: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (6: 103) وَآية: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا} (42: 51) إِلَخْ، وَقَدْ غَفَلَا عَمَّا لَمْ يَجْهَلَا مِنْ حَدِيثِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَوْلُهَا لِمَسْرُوقٍ لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ آيَةِ سُورَةِ النَّجْمِ عَلَى رُؤْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ إِنَّهَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقَدَّمَ لَفْظُهَا فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَصْرَحُ فِي الْمُرَادِ، وَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ قَالَتْ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: لَا؛ إِنَّمَا رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مُنْهَبِطًا» إِلَخْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ فِي الرِّوَايَاتِ لِأَجْلِ التَّمْحِيصِ وَتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهَا كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَالْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، فَبَيَّنَا أَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْضُهَا مُطْلَقٌ وَبَعْضُهَا مُقَيَّدٌ بِالرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ لَا الْبَصَرِيَّةُ، فَإِذَا حَكَّمْتَ فِيهَا قَاعِدَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ زَالَ التَّعَارُضُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ.